فصل: الْقَاعِدَةُ الْأَسَاسِيَّةُ الْأُولَى لِلْحُكْمِ الْإِسْلَامِيِّ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.المقصد السَّادِسُ مِنْ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ بَيَانُ حُكْمِ الْإِسْلَامِ السِّيَاسِيِّ الدَّوْلِيِّ:

بَيَانُ حُكْمِ الْإِسْلَامِ السِّيَاسِيِّ الدَّوْلِيِّ: نَوْعِهِ وَأَسَاسِهِ وَأُصُولِهِ الْعَامَّةِ:
الْإِسْلَامُ دِينُ هِدَايَةٍ وَسِيَادَةٍ وَسِيَاسَةٍ وَحُكْمٍ؛ لِأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ إِصْلَاحِ الْبَشَرِ فِي جَمِيعِ شُئُونِهِمُ الدِّينِيَّةِ وَمَصَالِحِهِمُ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالْقَضَائِيَّةِ يَتَوَقَّفُ عَلَى السِّيَادَةِ وَالْقُوَّةِ وَالْحُكْمِ بِالْعَدْلِ وَإِقَامَةِ الْحَقِّ، وَالِاسْتِعْدَادِ لِحِمَايَةِ الدِّينِ وَالدَّوْلَةِ، وَفِيهِ أُصُولٌ وَقَوَاعِدُ.

.الْقَاعِدَةُ الْأَسَاسِيَّةُ الْأُولَى لِلْحُكْمِ الْإِسْلَامِيِّ:

الحكم فِي الْإِسْلَامِ لِلْأُمَّةِ، وَشَكْلُهُ شُورَى، وَرَئِيسُهُ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ أَوِ (الْخَلِيفَةُ) مُنَفِّذٌ لِشَرْعِهِ، وَالْأُمَّةُ هِيَ الَّتِي تَمْلِكُ نَصْبَهُ وَعَزْلَهُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (42: 38) وَقَالَ لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} (3: 159) وَكَانَ صلى الله عليه وسلم يُشَاوِرُ أَصْحَابَهُ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ مِنْ سِيَاسِيَّةٍ وَحَرْبِيَّةٍ وَمَالِيَّةٍ مِمَّا لَا نَصَّ فِيهِ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى، وَقَدْ بَيَّنْتُ فِي تَفْسِيرِهَا حِكْمَةَ تَرْكِ الشُّورَى لِاجْتِهَادِ الْأُمَّةِ.
وَقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (4: 159) وَأُولُو الْأَمْرِ هُمْ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ وَالرَّأْيِ الْحَصِيفِ فِي مَصَالِحِهَا، الَّذِينَ تَثِقُ بِهِمُ الْأُمَّةُ وَتَتْبَعُهُمْ فِيمَا يُقِرُّونَهُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ تِلْكَ الْآيَةِ مِنْ سُورَتِهَا: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (4: 83) فَأُولُو الْأَمْرِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ الرَّسُولِ، وَكَانَ الْأَمْرُ يُرَدُّ إِلَيْهِ وَإِلَيْهِمْ فِي الشُّئُونِ الْعَامَّةِ لِلْأُمَّةِ مِنَ الْأَمْنِ وَالْخَوْفِ وَغَيْرِهِمَا، هُمُ الَّذِينَ كَانَ صلى الله عليه وسلم يَسْتَشِيرُهُمْ فِي الْأُمُورِ الدَّقِيقَةِ وَالسِّرِّيَّةِ الْمُهِمَّةِ. وَكَانَ يَسْتَشِيرُ جُمْهُورَ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا لَهُمْ بِهِ عَلَاقَةٌ عَامَّةٌ وَيَعْمَلُ بِرَأْيِ الْأَكْثَرِ وَإِنْ خَالَفَ رَأْيَهُ، كَاسْتِشَارَتِهِمْ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ فِي أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ: الْحِصَارِ فِي الْمَدِينَةِ أَوِ الْخُرُوجِ إِلَى أُحُدٍ لِلِقَاءِ الْمُشْرِكِينَ فِيهِ. وَكَانَ رَأْيُهُ وَرَأْيُ بَعْضِ كِبَارِ الْأُمَّةِ الْأَوَّلَ، وَرَأْيُ الْجُمْهُورِ الثَّانِيَ، فَنَفَّذَ رَأْيَ الْأَكْثَرِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَشَارَ فِي مَسْأَلَةِ أَسْرَى بَدْرٍ خَوَاصَّ أُولِي الْأَمْرِ وَعَمِلَ بِرَأْيِ أَبِي بَكْرٍ، كَمَا فَصَّلْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ.
وَقَدْ بَيَّنْتُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْأُولَى (4: 59) مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ قَوَاعِدِ الْحُكْمِ الْإِسْلَامِيِّ وَكَوْنِهِ أَفْضَلَ مِنَ الْحُكْمِ النِّيَابِيِّ الَّذِي عَلَيْهِ دُوَلُ هَذَا الْعَصْرِ.
وَمِنَ الدَّلَائِلِ الْكَثِيرَةِ عَلَى أَنَّ التَّشْرِيعَ الْقَضَائِيَّ وَالسِّيَاسِيَّ هُوَ حَقُّ الْأُمَّةِ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا فِي الْحَدِيثِ بِالْجَمَاعَةِ، أَنَّ الْقُرْآنَ يُخَاطِبُ بِهَا جَمَاعَةَ الْمُؤْمِنِينَ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ الْخَاصَّتَيْنِ بِالْحُكْمِ الْعَامِّ وَالدَّوْلَةِ وَفِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ الْعَامَّةِ، كَقَوْلِهِ: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (9: 1) وَمَا يَلِيهَا مِنَ الْآيَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمُعَاهَدَاتِ وَالْحَرْبِ وَالصُّلْحِ، وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ سُورَةِ الْأَنْفَالِ وَالْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ وَمِثْلِ قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (49: 9) وَكَذَلِكَ خِطَابُهُ لَهُمْ فِي أَحْكَامِ الْأَمْوَالِ كَالْغَنَائِمِ وَتَخْمِيسِهَا وَقِسْمَتِهَا وَأَحْكَامِ النِّسَاءِ وَغَيْرِهَا (وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا كُلَّهُ فِي مَوَاضِعِهِ مِنَ التَّفْسِيرِ).
وَقَدْ صَرَّحَ كِبَارُ النُّظَّارِ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ بِأَنَّ السُّلْطَةَ فِي الْإِسْلَامِ لِلْأُمَّةِ يَتَوَلَّاهَا أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ الَّذِينَ يُنَصِّبُونَ عَلَيْهَا الْخُلَفَاءَ وَالْأَئِمَّةَ، وَيَعْزِلُونَهُمْ، إِذَا اقْتَضَتِ الْمَصْلَحَةُ عَزْلَهُمْ قَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ فِي تَعْرِيفِ الْخِلَافَةِ: هِيَ رِئَاسَةٌ عَامَّةٌ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا لِشَخْصٍ وَاحِدٍ مِنَ الْأَشْخَاصِ. وَقَالَ فِي الْقَيْدِ الْأَخِيرِ (الَّذِي زَادَهُ عَلَى مَنْ قَبْلَهُ) هُوَ احْتِرَازٌ عَنْ كُلِّ الْأُمَّةِ إِذَا عَزَلُوا الْإِمَامَ لِفِسْقِهِ.
قال العلامة السَّعْدُ التَّفْتَازَانِيُّ فِي شَرْحِ الْمَقَاصِدِ عِنْدَ ذِكْرِ هَذَا التَّعْرِيفِ وَمَا عُلِّلَ بِهِ الْقَيْدَ الْأَخِيرَ: وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِكُلِّ الْأُمَّةِ أَهْلَ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، وَاعْتَبَرَ رِئَاسَتَهُمْ عَلَى مَنْ عَدَاهُمْ أَوْ عَلَى كُلٍّ مِنْ آحَادِ الْأُمَّةِ. اهـ، وَقَدْ فَصَّلْنَا مَسْأَلَةَ سُلْطَةِ الْأُمَّةِ فِي كِتَابِنَا (الْخِلَافَةُ أَوِ الْإِمَامَةُ الْعُظْمَى).
فَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ الْأَسَاسِيَّةُ لِدَوْلَةِ الْإِسْلَامِ أَعْظَمُ إِصْلَاحٍ سِيَاسِيٍّ لِلْبَشَرِ، قَرَّرَهَا الْقُرْآنُ فِي عَصْرٍ كَانَتْ فِيهِ جَمِيعُ الْأُمَمِ مُرْهَقَةً بِحُكُومَاتٍ اسْتِبْدَادِيَّةٍ اسْتَعْبَدَتْهَا فِي أُمُورِ دِينِهَا وَدُنْيَاهَا، وَكَانَ أَوَّلَ مُنْقِذٍ لَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَكُنْ يَقْطَعُ بِأَمْرٍ مِنْ أُمُورِ السِّيَاسَةِ وَالْإِدَارَةِ الْعَامَّةِ لِلْأُمَّةِ إِلَّا بِاسْتِشَارَةِ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالْمَكَانَةِ فِي الْأُمَّةِ؛ لِيَكُونَ قُدْوَةً لِمَنْ بَعْدَهُ.
ثُمَّ جَرَى عَلَى ذَلِكَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ، فَقَالَ الْخَلِيفَةُ الْأَوَّلُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه فِي أَوَّلِ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَقِبَ مُبَايَعَتِهِ: أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ وُلِّيتُ عَلَيْكُمْ وَلَسْتُ بِخَيْرِكُمْ، فَإِذَا اسْتَقَمْتُ فَأَعِينُونِي، وَإِذَا زِغْتُ فَقَوِّمُونِي. وَقَالَ الْخَلِيفَةُ الثَّانِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه مَنْ رَأَى مِنْكُمْ فِيَّ عِوَجًا فَلْيُقَوِّمْهُ فَقَالَ لَهُ أَعْرَابِيٌّ: لَوْ رَأَيْنَا فِيكَ عِوَجًا لَقَوَّمْنَاهُ بِسُيُوفِنَا. فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ يُقَوِّمُ عِوَجَ عُمَرَ بِسَيْفِهِ. وَكَانَ يَجْمَعُ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالرَّأْيِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَيَسْتَشِيرُهُمْ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ لَيْسَ فِيهَا نَصٌّ مِنْ كِتَابِ اللهِ وَلَا سُنَّةٌ أَوْ قَضَاءٌ مِنْ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ الثَّالِثُ عُثْمَانُ رضي الله عنه أَمْرِي لِأَمْرِكُمْ تَبَعٌ، وَكَذَلِكَ كَانَ عَمَلُ الْخَلِيفَةِ الرَّابِعِ عَلِيٍّ الْمُرْتَضَى رضي الله عنه وَكَرَّمَ وَجْهَهُ، وَلَا أَذْكُرُ لَهُ كَلِمَةً مُخْتَصَرَةً مِثْلَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ عَلَى الْمِنْبَرِ.
وَإِذَا أَوْجَبَ اللهُ الْمُشَاوَرَةَ عَلَى رَسُولِهِ فَغَيْرُهُ أَوْلَى، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ أَدْنَى مِنْ حُكْمِ مَلِكَةِ سَبَأٍ الْعَرَبِيَّةِ فَقَدْ كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِالشُّورَى، وَوُجِدَ ذَلِكَ فِي أُمَمٍ أُخْرَى، وَإِنْ جَهِلَ ذَلِكَ مَنْ جَهِلَهُ مِنَ الْفُقَهَاءِ.
وَلَكِنَّ مُلُوكَ الْمُسْلِمِينَ زَاغُوا بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ هَذَا الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَشَايَعَهُمْ عُلَمَاءُ الرُّسُومِ الْمُنَافِقُونَ، وَخُطَبَاءُ الْفِتْنَةِ الْجَاهِلُونَ، حَتَّى صَارَ الْمُسْلِمُونَ يَجْهَلُونَ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ الْأَسَاسِيَّةَ لِحُكُومَةِ دِينِهِمْ، وَكَانَ مِنْ حُسْنِ حَظِّ الْإِفْرِنْجِ فِي حَرْبِهِمُ الصَّلِيبِيَّةِ أَنْ كَانَ سُلْطَانُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِي نَصَرَهُ اللهُ عَلَيْهِمْ يَقْتَفِي فِي حُكْمِهِ أَثَرَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَهُوَ صَلَاحُ الدِّينِ الْأَيُّوبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ الَّذِي قَالَ لِأَحَدِ رِجَالِهِ الْمُتَمَيِّزِينَ عِنْدَهُ وَقَدِ اسْتَعْدَاهُ عَلَى رَجُلٍ غَشَّهُ: (مَا عَسَى أَنْ أَصْنَعَ لَكَ، وَلِلْمُسْلِمِينَ قَاضٍ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ، وَالْحَقُّ الشَّرْعِيُّ مَبْسُوطٌ لِلْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ وَأَوَامِرُهُ وَنَوَاهِيهِ مُمْتَثِلَةٌ، وَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُ الشَّرْعِ وَشِحْنَتُهُ، فَالْحَقُّ يَقْضِي لَكَ أَوْ عَلَيْكَ) وَمَعْنَى عِبَارَةِ السُّلْطَانِ: أَنَّهُ لَيْسَ إِلَّا مُنَفِّذًا لِحُكْمِ الشَّرْعِ- كَالشِّحْنَةِ وَهُوَ صَاحِبُ الشُّرْطَةِ- وَأَنَّ الْقُضَاةَ مُسْتَقِلُّونَ بِالْحُكْمِ لِأَنَّهُمْ يَحْكُمُونَ بِالشَّرْعِ الْعَادِلِ الْمُسَاوِي بَيْنَ النَّاسِ. وَقَدِ اقْتَبَسَ الصَّلِيبِيُّونَ مِنْهُ طَرِيقَةَ حُكْمِهِ، ثُمَّ دَرَسُوا تَارِيخَ الْإِسْلَامِ فَعَرَفُوا مِنْهُ مَا جَهِلَهُ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ الْمُتَأَخِّرِينَ، حَتَّى أَسَّسُوا حُكْمَ دُوَلِهِمْ عَلَى قَاعِدَةِ سُلْطَةِ الْأُمَّةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْإِسْلَامُ وَصَارُوا يَدَّعُونَهَا لِأَنْفُسِهِمْ، وَيَعِيبُونَ الْحُكُومَاتِ الْإِسْلَامِيَّةَ بِاسْتِبْدَادِهَا، ثُمَّ يُجْعَلُ الْإِسْلَامُ نَفْسُهُ سَبَبَ هَذَا الِاسْتِبْدَادِ وَالْحُكْمِ الشَّخْصِيِّ، وَصَارَ الْمُسْلِمُونَ يُصَدِّقُونَهُمْ، وَيَرَى الْمُشْتَغِلُونَ بِالسِّيَاسَةِ وَعِلْمِ الْحُقُوقِ مِنْهُمْ أَنَّهُ لَا صَلَاحَ لِحُكُومَاتِهِمْ إِلَّا بِتَقْلِيدِهِمْ، فَكَانَ هَذَا مِنْ أَسْبَابِ ضَيَاعِ أَعْظَمِ مَزَايَا الْإِسْلَامِ السِّيَاسِيَّةِ التَّشْرِيعِيَّةِ وَذَهَابِ أَكْثَرِ مُلْكِهِ.

.أُصُولُ التَّشْرِيعِ فِي الْإِسْلَامِ:

الْمَعْرُوفُ عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ أُصُولَ التَّشْرِيعِ الْأَسَاسِيَّةَ أَرْبَعَةٌ:
(1) الْقُرْآنُ الْمَجِيدُ وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ أَنَّ آيَاتِ الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةَ فِيهِ مِنْ دِينِيَّةٍ وَقَضَائِيَّةٍ وَسِيَاسِيَّةٍ لَا تَبْلُغُ عُشْرَ آيَاتِهِ، وَعَدَّهَا بَعْضُهُمْ خَمْسَمِائَةِ آيَةٍ لِلْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ يَعْنُونَ الصَّرِيحَ مِنْهَا وَأَكْثَرُهَا فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ أُمُورِ الدُّنْيَا مَوْكُولَةٌ إِلَى عُرْفِ النَّاسِ وَاجْتِهَادِهِمْ.
(2) مَا سَنَّهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِلْعَمَلِ وَالْقَضَاءِ بِهِ مِنْ بَيَانٍ لِكِتَابِ اللهِ تَعَالَى، وَقَالُوا أَيْضًا إِنَّ أَحَادِيثَ الْأَحْكَامِ الْأُصُولِ خَمْسُمِائَةِ حَدِيثٍ تَمُدُّهَا أَرْبَعَةُ آلَافٍ فِيمَا أَذْكُرُ.
(3) إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ، وَاتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فِي الدِّينِيَّاتِ، وَفِي إِجْمَاعِ الْمُجْتَهِدِينَ بَعْدَهُمْ تَفْصِيلٌ.
(4) اجْتِهَادُ الْأَئِمَّةِ وَالْأُمَرَاءِ وَالْقُضَاةِ وَالْقُوَّادِ فِي الْأُمُورِ الْقَضَائِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ وَالْإِدَارِيَّةِ وَالْحَرْبِيَّةِ، وَخَصَّهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ (بِالْقِيَاسِ) وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمُ الْقِيَاسَ وَقَيَّدَهُ آخَرُونَ كَمَا فَصَّلْنَا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ (5: 101).
وَوَرَدَ فِي هَذَا التَّرْتِيبِ أَحَادِيثُ وَآثَارُ تَدُلُّ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ (مِنْهَا) حَدِيثُ مُعَاذٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَرْسَلَهُ إِلَى الْيَمَنِ قَالَ لَهُ: «كَيْفَ تَصْنَعُ إِذَا عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ؟» قَالَ: أَقْضِي بِمَا فِي كِتَابِ اللهِ، قَالَ: «فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللهِ؟» قَالَ: فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
قال: «فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ» قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي لَا آلُو.
قال مُعَاذٌ: فَضَرَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَدْرِي ثُمَّ قَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْحَارِثِ بْنِ عَمْرٍو وَفِيهِ مَقَالٌ وَلَهُ شَوَاهِدُ، وَأَمَّا الْعَمَلُ بِهَذَا التَّرْتِيبِ فَهُوَ مَعْرُوفٌ عَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَقَدْ بَيَّنَاهُ فِي مَحَلِّهِ وَبِهِ أَمَرَ عُمَرُ رضي الله عنه قَاضِيَهُ شُرَيْحًا فِي كِتَابِهِ الْمَشْهُورِ فِي الْقَضَاءِ، وَلَكِنَّ الْفُقَهَاءَ يُقَدِّمُونَ الْإِجْمَاعَ حَتَّى الْعُرْفِيَّ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ- وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ- عَلَى النَّصِّ.
وَالْأَصْلُ فِي شَرْعِيَّةِ اجْتِهَادِ الرَّأْيِ لِلْحُكَّامِ حَدِيثُ: «إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ» رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ كُلُّهُمْ.
بَلْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعْطِي أُمَرَاءَ الْجُيُوشِ وَالسَّرَايَا حَقَّ الْحُكْمِ بِمَا يَرَوْنَ فِيهِ الْمَصْلَحَةِ بِقَوْلِهِ لِلْوَاحِدِ مِنْهُمْ: «وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ عَلَى أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللهِ فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللهِ، وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ فِيهِمْ حُكْمَ اللهِ أَمْ لَا» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ. وَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي إِنْزَالِهِمْ عَلَى ذِمَّةِ الْأَمِيرِ دُونَ ذِمَّةِ اللهِ وَرَسُولِهِ لِئَلَّا يَخْفِرَهَا.

.قَوَاعِدُ الِاجْتِهَادِ مِنَ النُّصُوصِ:

أحكام الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْهَا أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ بِالْأَعْمَالِ وَالْوَقَائِعِ، وَمِنْهَا قَوَاعِدُ عَامَّةٌ لِلتَّشْرِيعِ، وَالْأَحْكَامِ الْخَاصَّةِ مِنْهَا مَا هُوَ قَطْعِيُّ الرِّوَايَةِ وَالدَّلَالَةِ لَا مَجَالَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ، وَلَا مَعْدِلَ عَنِ الْحُكْمِ بِهِ إِلَّا لِمَانِعٍ شَرْعِيٍّ مِنْ فَوَاتِ شَرْطٍ كَدَرْءِ حَدٍّ بِشُبْهَةٍ أَوْ عُذْرِ ضَرُورَةٍ، وَقَدْ أَمَرَ عُمَرُ رضي الله عنه فِي الْمَجَاعَةِ أَلَّا يُحَدَّ سَارِقٌ. وَمِنْهَا مَا هُوَ غَيْرُ قَطْعِيٍّ يُعْمَلُ فِيهِ بِاجْتِهَادِ مَنْ يُنَاطُ بِهِ الْحُكْمُ وَالتَّنْفِيذُ مِنْ أَمِيرٍ أَوْ قَاضٍ أَوْ قَائِدِ جَيْشٍ كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ.
وَأَمَّا الْقَوَاعِدُ الْعَامَّةُ فَهِيَ مَا تَجِبُ مُرَاعَاتُهُ فِي الْأَحْكَامِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَأَهَمُّهَا فِي الْإِسْلَامِ تَحَرِّي الْحَقِّ وَالْعَدْلِ الْمُطْلَقِ الْعَامِّ، وَالْمُسَاوَاةُ فِي الْحُقُوقِ وَالشَّهَادَاتِ وَالْأَحْكَامِ وَتَقْدِيرِ الْمَصَالِحِ، وَدَرْءُ الْمَفَاسِدِ، وَمُرَاعَاةُ الْعُرْفِ بِشَرْطِهِ، وَدَرْءُ الْحُدُودِ بِالشُّبَهَاتِ، وَكَوْنُ الضَّرُورَاتِ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ، وَتَقْدِيرُ الضَّرُورَةِ بِقَدْرِهَا، وَدَوَرَانُ الْمُعَامَلَاتِ عَلَى اكْتِسَابِ الْفَضَائِلِ، وَاجْتِنَابِ الرَّذَائِلِ، وَنَكْتَفِي بِالشَّوَاهِدِ فِي الْعَدْلِ وَالظُّلْمِ.

.نُصُوصُ الْقُرْآنِ فِي إِيجَابِ الْعَدْلِ الْمُطْلَقِ وَالْمُسَاوَاةِ فِيهِ وَحَظْرِ الظُّلْمِ:

لَمَّا كَانَ الْعَدْلُ أَسَاسَ الْأَحْكَامِ، وَمِيزَانَ التَّشْرِيعِ وَقِسْطَاسَهُ الْمُسْتَقِيمَ، أَكَّدَ اللهُ تَعَالَى الْأَمْرَ بِهِ وَالْمُسَاوَاةَ فِيهِ بَيْنَ النَّاسِ فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ.
قال تَعَالَى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} (16: 90) وَقَالَ: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (4: 58) وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (4: 135) أَمَرَ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْمُبَالَغَةِ فِي الْقِيَامِ بِالْقِسْطِ وَهُوَ الْعَدْلُ؛ فَإِنَّ الْقَوَّامَ (بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ) صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ لِلْفَاعِلِ بِالْقِيَامِ بِالْأَمْرِ وَعَدَمِ التَّهَاوُنِ وَالتَّقْصِيرِ فِيهِ، وَبِأَنْ تَكُونَ شَهَادَتُهُمْ فِي الْمُحَاكَمَاتِ وَغَيْرِهَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا لِهَوَى وَلَا مَصْلَحَةِ أَحَدٍ، وَلَوْ كَانَتْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَوْ وَالِدَيْهِمْ وَالْأَقْرَبِينَ مِنْهُمْ، وَأَلَّا يُحَابُوا فِيهَا غَنِيًّا لِغِنَاهُ تَقَرُّبًا إِلَيْهِ أَوْ تَكْرِيمًا لَهُ، وَلَا فَقِيرًا لِفَقْرِهِ رَحْمَةً بِهِ وَشَفَقَةً عَلَيْهِ، وَنَهَاهُمْ عَنِ اتِّبَاعِ الْهَوَى فِي الْحُكْمِ أَوِ الشَّهَادَةِ كَرَاهَةً أَلَّا يَعْدِلُوا فِيهِمَا لِمُرَاعَاةِ مَنْ ذُكِرَ مِنَ النَّاسِ، وَأَنْذَرَهُمْ عِقَابَهُ إِنْ لَوَوْا وَمَالُوا عَنِ الْحَقِّ أَوْ أَعْرَضُوا عَنْهُ.
وَقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (5: 8) فَهَذِهِ الْآيَةُ مُتَمِّمَةٌ لِمَا قَبْلَهَا فَهُنَاكَ يَأْمُرُ بِالْمُسَاوَاةِ فِي الْعَدْلِ وَالشَّهَادَةِ بَيْنَ النَّفْسِ وَغَيْرِهَا، وَبَيْنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، وَبَيْنَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ، وَهَاهُنَا يَأْمُرُ بِالْمُسَاوَاةِ فِيهِمَا بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَأَعْدَائِهِ مَهْمَا يَكُنْ سَبَبُ عَدَاوَتِهِمْ لَا فَرْقَ فِيهَا بَيْنَ دِينِيٍّ وَدُنْيَوِيٍّ، فَالشَّنَآنُ: الْبُغْضُ وَالْعَدَاوَةُ، وَقِيلَ مَعَ الِاحْتِقَارِ وَقَدْ قال: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا} (5: 8) لَا يَحْمِلَنَّكُمْ بُغْضُهُمْ وَعَدَاوَتُهُمْ لَكُمْ أَوْ بُغْضُكُمْ وَعَدَاوَتُكُمْ لَهُمْ عَلَى تَرْكِ الْعَدْلِ فِيهِمْ، فَالْعَدْلُ بِالْمُسَاوَاةِ أَقْرُبُ إِلَى تَقْوَى اللهِ، وَأَنْذَرَ تَارِكَ الْعَدْلِ لِلشَّنَآنِ بِمِثْلِ مَا أَنْذَرَ تَارِكَهُ لِلْمُحَابَاةِ، أَنْذَرَ كُلًّا مِنْهُمَا بِأَنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَعْمَلُهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ، فَهُوَ يُحَاسِبُهُ عَلَى عَمَلِهِ وَعَلَى نِيَّتِهِ وَقَصْدِهِ مِنْهُ، فَيُثِيبُهُ أَوْ يُعَاقِبُهُ عَلَى مَا يَعْلَمُ مِنْ أَمْرِهِ.
فَالْعَدْلُ هُوَ الْمِيزَانُ فِي قوله تعالى: {اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} (42: 17) وَقَوْلِهِ: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} (57: 25) الْآيَةَ: فَخَيْرُ النَّاسِ مَنْ يَصُدُّهُمْ عَنِ الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ هِدَايَةُ الْقُرْآنِ، وَيَلِيهِمْ مَنْ يَصُدُّهُمُ الْعَدْلُ الَّذِي يُقِيمُهُ السُّلْطَانُ، وَشَرُّهُمْ مَنْ لَا عِلَاجَ لَهُ إِلَّا السَّيْفُ وَالسِّنَانُ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْحَدِيدِ.
فَقِوَامُ صَلَاحِ الْعَالَمِ بِالْإِيمَانِ بِالْكِتَابِ الَّذِي يُحَرِّمُ الظُّلْمَ وَسَائِرَ الْمَفَاسِدِ، فَيَجْتَنِبُهَا الْمُؤْمِنُ خَوْفًا مِنْ عَذَابِ اللهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَرَجَاءً فِي ثَوَابِهِ فِيهِمَا، وَبِالْعَدْلِ فِي الْأَحْكَامِ الَّذِي يَرْدَعُ النَّاسَ عَنِ الظُّلْمِ بِعِقَابِ السُّلْطَانِ.
وَيُؤَيِّدُ قَاعِدَةَ إِقَامَةِ الْعَدْلِ مَا وَرَدَ فِي تَحْرِيمِ الظُّلْمِ وَالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ عَلَيْهِ. فَقَدْ ذُكِرَ الظُّلْمُ فِي مِئَاتٍ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ أَسْوَأَ الذِّكْرِ، وَقُرِنَ فِي بَعْضِهَا بِأَسْوَأِ الْعَوَاقِبِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَنَّ الْجَزَاءَ عَلَيْهِ فِيهِمَا أَثَرٌ لَازِمٌ لَهُ لُزُومَ الْمَعْلُولِ لِلْعِلَّةِ وَالْمُسَبَّبِ لِلسَّبَبِ، وَأَنَّ النَّاسَ هُمُ الَّذِينَ يَظْلِمُونَ أَنْفُسَهُمْ {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (18: 49) وَمِنْ أَثَرِهِ وَعَاقِبَتِهِ فِي الدُّنْيَا أَنَّهُ مُهْلِكُ الْأُمَمِ وَمُخَرِّبُ الْعُمْرَانِ، قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (11: 117) أَيْ مَا كَانَ مِنْ شَأْنِهِ وَلَا مِنْ سُنَّتِهِ فِي نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ أَنْ يُهْلِكَ الْأُمَمَ بِظُلْمٍ مِنْهُ لَهُمْ، أَوْ بِشِرْكٍ بِهِ يَقَعُ مِنْهُمْ، وَهُمْ مُصْلِحُونَ فِي سِيرَتِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، وَإِنَّمَا يُهْلِكُهُمْ بِظُلْمِهِمْ وَإِفْسَادِهِمْ، كَمَا قَالَ: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} (18: 59) وَقَالَ فِي الْأَحْكَامِ: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (5: 45) وَرَدَ هَذَا فِي حُكْمِ الْقِصَاصِ.